Letters from Byblos
معالي الوزير القاضي محمد وسام المرتضى
وزير الثقافة
كلما تناهى إليَّ خبرُ ندوةٍ عن اللغة العربية، قَفَزَتْ إلى ذاكرتي من مطاوي شبابها، قصيدةُ شاعر النيل حافظ ابراهيم التي عنوانُها “اللغة العربية» تنعى حظها وفيها يقول:
أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ
كامـنٌ
فهل سألوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي
وكان ذلك لي مناسبةً لتجديد الشغف بلغتِنا الأم، ولتأكيد الإيمان بقدرتِها الخارقة على التوالد واستيعاب معطيات العصرِ، كلِّ عصر، نظرًا لما تتميز به من اتساعِ جذورٍ وتنوّعِ اشتقاقاتٍ ووَفْرَةِ صيغ.
على أن هذا ليس موضوعَ مؤتمركم اليوم. فإنكم لن تتناولوا خصائصَ العربية وميزاتِ أساليبِها وقواعدِها وأصولَ علومِها المتنوعة، بل أنتم مقبلون على ما هو أبعدُ، وطنيًّا وقوميًّا وإنسانيًّا يتمثل في مناقشة دور هذه اللغة في مسألة حوار الحضارات، ولي هنا بضعُ ملاحظات:
أولاها ذاتُ طابَعٍ تاريخيٍّ نتذكَّرُ من خلاله أن هذه اللغةَ كانت جسرَ عبور الغربِ إلى عالمه الفكري والعلمي والحضاريّ المعاصر؛ ذلك أنها حفِظَت منتَجات الثقافات القديمة، ثم طورتها وأضافت إليها، وخصوصًا عبر مشروع الترجمة من الإغريقية والسريانية والسنسكريتية وغيرها، الذي تولّته الحضارة الإسلامية، على أيدي مترجمين جلُّهم من المسيحيين، في صورةٍ ولا أبهى عن حوار الحضارات الذي عشناه على هذه الأرض منذ القرن الهجريّ الأول، عيشًا حقيقيًّا راسخًا. فهل هناكَ حوارٌ أعلى من هذا: أن ينقل مسيحي إلى اللسانِ العربي تراثًا “وثنيًّا” في الفلسفة مثلًا، فيتقبَّلُه المسلمون ويناقشون فيه ويتخذون منطقه حجةً في المحاورات المنتشرة على امتداد رقعة الدولة، ثم يسلمونه إلى أوروبا الغارقة آنذاك في ظلماتِها، ليكون لها فجرَ نهضتِها؟
أما الملاحظة الثانية فراهِنَة، ومؤدّاها أن حوارَ الحضارات في عالم اليوم، نظرية سياسية اجتماعية تُقيمُ، في الأغلبِ الأعمِّ من حركتِها، كلَّ من هو عربيٌّ أو مسلمٌ، طرفًا آخرَ مقابِلًا مستهدَفًا من عملية الحوار. وبسبب الارتباط الوثيق دينيًّا وحضاريًّا بين اللغة العربية والإسلام، يصبح دور لغتِنا حاسمًا في التأثير على هذا الحوار، من حيثُ المقبوليةُ والفاعلية. ذلك أن أيَّ حوار حضاريّ ينبغي له أن يقوم بين أحرارٍ متساوين في المواقع والقدرات، لا بين قوي وضعيف؛ وما دامت سيادة اللغة نتيجةً حتميةً لسيادة الأمة التي تنطق بها، فإن تعزيزَ العربية يصبح تحت هذا العنوان، حافزًا لنا، على مقاربة مسائلنا الوجودية بمعيار السيادة الحقيقية التي نستطيع أن نفرضَها ونحميَها بقدراتِنا الماديةِ والروحيةِ الخاصة.
ويأخذني هذا الكلامُ إلى الملاحظة الثالثة التي أودُّ فيها أن أؤكّدَ على أنَّ حوار الحضارات لا يكون منتجًا ومفيدًا للإنسانية إلا إذا تخلى القائمون به عن المفرداتِ العدائية التي تسيطرُ على كثيرٍ من العقول، وتبني فيها أسوارًا من نظراتٍ مسبَقة عن الآخر. ولا شكَّ في أن التاريخ القديم والحديث مثقلٌ بذاكرةٍ عدائيةٍ، هنا وثمّةَ، لكنَّ أقساها يتمثلُ في الحروبِ التي تُخاضُ في مناطقِ اللغة العربية، ضدَّ أبنائها ونسيج شعوبِها وأوابدِ عصورِها وطموحاتِ مستقبلِها. حروبٌ أفظعها اغتيالُ العروبة في فلسطين ومحاولة تهويدِ بحرِها وأرضِها وفضائها، وأحجارِها وأشجارِها ومقدساتِها وحقوق أهلِها في وجودهم الوطني والإنساني، وما نتج عن ذلك من دمٍ سال بين الماء والماءِ في أرضِ العرب، تغطيةً لهذا الاغتيال وحمايةً له، مراتٍ بأيدٍ محليةٍ ومراتٍ بغزوٍ أجنبي، حتى بات واضحًا لكلِّ ذي عقل أن أي حوارٍ في هذه الحالة سيبقى بلا طائل، ما لم يُصَحَّحْ مسارُ التاريخِ بإعادة الجغرافيا الفلسطينية كاملةً إلى لغتِها العربية الأم.
وبعدُ، أيتها الفاضلاتُ… أيها الأفاضل
هذا اللسان العربي المبين الذي به نقل به جبريلُ كلامَ الله تعالى إلى رسولِه الأمين، فكان به حديثُ السماءِ إلى الأرض… هذا اللسانُ قادرٌ بلا شكٍّ أن يحتضن حوار الناس فيما بينهم، فلنفتخرْ به ولنصنْه من عبثِ الكائدين، ولنؤمنْ على الدوام بأن الله خيرٌ حافظًا؛ والسلام.
د. دارينا صليبا أبي شديد
مديرة المركز الدولي لعلوم الانسان، اليونسكو بيبلوس
أن تكونَ اللّغة العربيّة خيارَ أحفادِ قَدموس ليس صُدفة …
أن يعتمدَ ورثةُ أحيرام هذه اللّغة كلغةٍ رسمية، إنما هو تكليفٌ وتشريف …
فإن كُلّفنا ذلك لأننا كنا حُماةَ هذه اللّغة يومَ اضطُهِدت وحُرِقَت المكتبات، كما حصلَ مع هولاغو على سبيل المثال لا الحصر، وعندما حاولَت حركاتٌ ثقافيّة غير عربيّة بفرض سَطوَتِها على اللّغة العربيّة كسياسةِ التتريك، فكنّا قلمَ العروبةِ وسيفِها، فأُنشئَت المطابعُ في رحاب لبنان، لتكونَ بعدَها نهضةٌ، ليسَ صدفةً أن يكونَ ابنُ البستاني وميخائيل نعيمة والأخطل الصغير، أبرزَ رُوّادها.
وكما شرّفنا في ميادينِ الأدب والعلم، نتشرّفُ بكبارٍ أغنَوا الأدب العالمي بمؤلّفاتٍ عربيّة تُرجمت الى لغاتِ العالم، أمثالَ جبران خليل جبران وأمين معلوف.
هذه اللّغة هي أكثرُ اللغاتِ الساميةِ انتشاراً، غنيةٌ بمفرداتها، وثراءِ حروفِها وتنوُّعِ أساليبِها اللّغوية واستخدامِها المحسِّنات البديعية، أنيقةُ النبرة تتميّزُ بمخارجِ حُروفِها، فأجمعَ الكثيرون أنها اللّغة الأكثر موسيقيّة.
قصائدُها تتمايلُ على وقْعِ أمواجِ بحورِ الشعرِ كقاربٍ يأبى حتى ان يَلمحَ نورَ المنارة، فيتوهُ متمرّداً رافضاً أن يُلقيَ مَرساةَ السكينة … وصفُها وفخرُها وحِكَمُها تعشقُها الأذنُ والعين … حتى رثاؤها جميلٌ بدموعِه وحسراتِه.
فقصيدةُ حافظ ابراهيم في رِثاء مصطفى كمال لوحةٌ تَرسمُ لوحةً ولا أبهى عندما يقول:
أَيا قَبرُ هَذا الضَيفُ آمالُ أُمَّةٍ فَكَبِّر وَهَلِّل وَاِلقَ ضَيفَكَ جاثِيا
واسمع السوداني محمد ادريس يتغزّل بعيني ممرضةٍ خبّأت عينَيها بنظارةٍ سوداء إذ قالَ لها: “ﻭﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻤﺪ ﻻ تخشى ﻣﻀﺎﺭﺑﻪ ﻭﺳﻴﻒ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻓﻲ ﺍلحالين ﺑﺘّﺎﺭ”
هذه اللّغة بجمالاتها ورَونقِها وصُوَرِها هي لغتُنا، وهي تواجهُ اليوم مخاطرَ العولمة المُندَفعة باتجاه أولوياتِ عالمِ التكنولوجيا والتبادُلِ التجاري. فالجنوحُ الى اللغات الأجنبيّة باتَ من الأولويات، عندها يتلاشى إرثٌ ثقافيٌ وحضاري أمام مُقتَضَيات العولمة، نحن هنا نناشدكم لمساندة اللّغة العربيّة لتبقى ضمن أولويات الشباب والشابات، فشجّعوا أولادكم وحرِّضوهم على دراستها بشغف، عساهم يتمكنون منها فتفخرون بهم أكثر وأكثر، ساعدوهم، طوّروا مهاراتِهم، بدِّدوا مخاوِفَهم وفسِّروا المُغالَطات.
هذا بعضٌ من الداء الذي سيتمُّ تشخيصُهُ وعلاجُهُ من قبل أصحابِ الاختصاصِ والمعرفة في هذا الصرح الجامعي المُميز، الذي عرفَني طالبةَ علمٍ وتعرّفَ عليّ استاذةً محاضرة، ولي الشرف، وها انا اليوم منباب منظمة اليونيسكو والمركز الدولي لعلوم الانسان نقفُ معاً في تنظيم مؤتمرٍ للغة العربيّة، برعايةٍ كريمةٍ من معالي وزير الثقافة، رئيس مجلس إدارة المركز الدولي لعلوم الانسان، وبالتعاون مع مؤسسة هانز سايدل الألمانية الداعمة الدائمة لنشاطاتنا.
د. ميشال معوّض
رئيس الجامعة اللبنانية الأمريكية
اللّغة هي من اهم آليات التفكير وهي قالب للفكر ووعاء للمعاني واطار للتعبير وناقلة للحضارة بالإضافة الى كونها منظاراً مهمّا نرى من خلاله العالم ونتفاعل معه ونحدّد من خلاله هويتنا وما يجمعنا بالثقافات الاخرى او يميزنا عنها. و اللّغة هي كذلك صلة وصل بين الاجيال في استمراريتها وتحولاتها تستقرأ من خلالها المناخات السائدة في حقبةٍ ما باعتبارها مفتاحاً لفهم العلاقات الاجتماعية السائدة او الاتجاهات المجتمعية الطاغية.
واذا كان هذا الكلام يصحّ في اية لغة فهو بالتأكيد يصح بالنسبة للّغة العربيّة الغنية بمفرداتها، والرحبة بمعانيها وتعابيرها والمتميزة بجماليتها ومقدرتها على المحافظة على توازن فريد بين الثابت والمتحوّل بصورة تفوق معظم اللغات الاخرى. فعلى سبيل المثال، انت لا تستطيع ان تقرأ وتفهم بسهولة نصاً انكليزياً عمره 500 عام، وقد تصل صعوبة ذلك الى درجة الاستحالة، بينما ترانا اليوم نقرأ بل ونستسيغ قراءة شعر المتنبي وأمرؤ القيس وعنترة بن شداد وغيرهم.
وإذا انتقلنا مباشرة الى موضوع حوار الحضارات، فهو بالدرجة الاولى حوار لغات، إذ لا آلية اخرى يمكن ان تغني عن اللغة في فهم اية حضارة، مع الاقرار بالطبع بوجود آليات رديفة مساعدة مثل الفن: من رسم وموسيقى ونحت وغير ذلك. اسهام اللّغة العربيّة في حوار الحضارات وتلاقيها وتكاملها ليس جديداً ولا طارئاً. فالغرب في القرون الوسطى عرف الفكر والعلم والفلسفة الاغريقية من خلال ترجمات باللّغة العربيّة قام بها مترجمون سريانيون في ازهى حقبات الدولة العباسية. ولولا هؤلاء لما وصل طب ابقراط وفكر سقراط وافلاطون وارسطو ومبادىء ارخميدس وغيرهم الى الغرب. كما لعبت اللّغة العربيّة كونها، لغة القرآن الكريم دوراً حاسماً في تقريب الحضارات من عربية وفارسية وهندية وغيرها وجمعها في بوتقه متجانسة قاسمها المشترك البعد الديني والسلوكيات والاجتماعية المرتبطة به. وإذا ركزّنا على الحقبة التاريخية الحديثة كان لنا امثلة ناصعة على اسهام اللغة العربية في حوار الحضرات من خلال شعراء وادباء لبنانيون في ديار الإغتراب. ان ادب المهجر، كالرابطة القلمية على سبيل المثال، هو مثال ساطع على خلق نوع جديد من الادب والشعر في بيئة غير عربية مما فتح ابواب التواصل على مصراعيها.
وقياساً على الامثلة الوارد ذكرها اعلاه، يمكن التمييز بين ادوار ثلاثة للغة العربية في حوار الحضارات.
الدور الاول هو الإرث الشعري والأدبي المميز باللغة العربية الذي اهديناه للعالم اما مترجماً او باللّغة الام واطّلع عليه وتأثر به الكثيرون من عمالقة الادب في الغرب، من دانتي الى شكسبير الى شعراء الفترة الرومانسية في الشعر الانكليزي.
الدور الثاني الذي لعبته اللّغة العربيّة في توفير ترجمات رائعة لأمهات الكتب الاجنبية وتوفيرها للقارىء باللّغة العربيّة بصورة فاقت الاصل احيانا بجماليتها. وربما المثال الاسطع هنا هو ترجمة الدكتور نقولا فياض لقصيدة لامرتين الشهيرة “البحيرة” والتي يعتبرها كثيرون اجمل من الاصل المترجم.
وبالنسبة للدور الثالث للّغة العربيّة في حوار الحضارات فهو يلخص بالاسهامات المتعددة للمستشرقين وهم من الغربيين الذي تعلّموا واتقنوا اللغة العربية وبرعوا فيها فأطلعوا حاضراتهم على روائعها وسلطوا الضوء على اجزاء من الحضارة العربية كنا نحن نجهلها ربما. ولهؤلاء الفضل الاكبر في بناء همزة وصل بين حضارات عريقة كان عمادها اللغة العربية كوعاء لمروحة واسعة من المحتويات الادبية والتاريخية والدينية وغيرها.
إن التحدي الاكبر الذي يواجهنا حالياً هو كيفية تفعيل دور اللغة العربية في حوار الحضارات في عصرنا الحالي الذي يتميّز بالسرعة القصوى، والتغيرات الحاسمة، وانتشار البيئة الرقمية في كل المجالات مما يغيّر كثيراً من المعطيات ويخلق قواعد عمل جديدة لا بد من الاخذ بها. وهنا تجدر بنا ان تطرح على انفسنا اسئلة هامة ثلاثة هي:
1- هل نحن نقوم بدورنا كاملاً في خلق منصات فاعلة للحوار والتلاقي الحضاري بين اللّغة العربيّة وسائر اللغات.
2- هل تقوم مدارسنا وجامعاتنا بما عليها من دور في تدريس اللغة العربية بصوره شيّقة تجذب الطلبة إليها وتجعلها جزءاً من هويتهم الثقافية؟
3- هل تخصص مجتمعاتنا العربيّة ما يكفي من الموارد للقيام بالدورين المذكورين أعلاه؟
ان اللّغة العربيّة هي لساننا الذي نتواصل من خلاله مع بقية الامم والحضارات، وهي وريثة الحقبات التي سبقتها في حضارات منطقتنا، وهي وعاء فريد لمخزون حضاري ضخم يشكل جوهر هويتنا، وهي اساسية في عملية نظرنا الى العالم ونظر العالم الينا، فهل يمكننا اليوم ان نقول اننا نُفيها حقها كحضارة يمكنها تقديم الكثير لسائر الحضارات؟
الاجوبة على هذه الاسئلة هي للاسف سلبية، مما يشكّل مأزقاً علينا ايجاد السبل للخروج منه.