تقديم
على مدى ثلاثة قرون في الغرب الأوروبي، أي منذ عصر النهضة ولغاية عصر الأنوار، خاضت الفلسفة معركة المجتمع البشري، فانتصرت، وأثبتت جدارتها العملية وصلاحيتها في مواجهة مشكلات الانسان الاجتماعية الناجمة عن الحياة في المدينة. وقد أدى هذا الانتصار الى فرض واقع ثقافي جديد كان من شأنه تغيير قوانين اللعبة الفلسفية في ميدان الفكر البشري. فبعد أن استوت الفلسفة وارتاحت على عرش الميتافيزيقا وشؤون الماوراء الإلهي بترسانتهما الهائمة في فضاءات المطلق، مع ما يطوف على مداراته من “حقائق” ثابتة تحتكر العَلمَ واليقين فلا تستطيع، بموجب واقعها هذا وطبيعته، القبول بغيرها سوى باعتباره كاذبا في المنطق، وكافرا في الدين، وعدوّا في السياسة، أصبحت الفلسفة أكثر تواضعا وشجاعة.
تواضعت الفلسفة إذ نزلت من علياء المتعاليات، وانحسرت عن ميدان الميتافيزيقا، واتخذت لها النسبي مطلقَها الوحيد، فتشظّت الحقيقة وأصبح اليقين يحتمل التعدّد في الإمكان، والتنوّع في الخيارات، بحيث أصبح الآخر يجد له في ميدان الفلسفة مكانا شرعيا وحقا مقبولا ومعترفا به.
وتشجعت الفلسفة على التغيير في اتجاهاتها بما جعلها تواكب الانسان المتجسد والملقى في عائلة، وبيئة، ومجتمع، ومدينة، فجَرُؤَت بمقتضى ذلك على التجديد في “عدّة الشغل” من مناهج ومصطلحات ومفاهيم، واستبدالها بما يتواءم مع همومها ومهامها وأهدافها المستجدّة. كما أقدمت بعباءة مستقلة على احتلال ساحات الشأن المدني، ما جعل من محاولات استتباعها للدين أو استخدامها أداة للتبرير الإيديولوجي نوعا من الأركيولوجيا المتعلقة بالتراث التاريخي والمتحفي.
هذه الوضعية الحديثة التي اعتمرتها الفلسفة الغربية فرضت على الثقافة العربية تحديا استجاب له الفكر الفلسفي العربي بنماذج مختلفة، تراوحت بين الانطواء المستكفي بذاته، والمداراة المتهيّبة سلطان الغيب، والمحاكاة بغير استقلال، والمجاراة في الجرأة على الإبداع. وقد انخرطت هذه الاستجابات الفلسفية المتعددة، بأسلحتها واستراتيجياتها المختلفة والمتباينة، في هذه المعركة، على حدود انتظارين: الهزيمة المتوقعة لبعضها، أو المشاركة في النصر المؤكّد لبعضها الآخر.
ضمن هذا الإطار من رؤيتنا لوضعية الفلسفة، طرح “الاتحاد الفلسفي العربي” موضوع “الفلسفة والمدينة” ليكون عنوانا رئيسا للمؤتمر السادس الذي انعقد في طرابلس (لبنان) بين 25 و27 نيسان (أبريل) 2012، وقد كان الهمّ الأساسي عند اختيار هذا الموضوع هو “المدينة”. هناك محطتان فلسفيتان شئنا التوقف عندهما في اختيار الموضوع، واحدة غربية وضع فيها أرسطو بصيغة أنتروبولوجية منطلقا لكل بحث فلسفي يتناول الانسان الواقعي بقوله إن “الانسان مدنيّ بالطبع”، وأخرى عربية استكمل فيها ابن خلدون المرحلة الإغريقية مضيفا بقوله إن “الانسان مدنيّ بالطبع، أي لا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدينة”. لقد نالت المدينة، بين هاتين المحطتين، وفي ما تلاهما من حقبات التاريخ الحضاري العالمي المتقدم في الزمان حتى اليوم، حصصا وازنة من نتاج الفكر الفلسفي، تراوحت بين النظر الى موضوع المجتمع البشري المنظّم من خلال السماء وشروط الخلاص الأبدي بمقتضى المشيئة الإلهية، والنظر اليه من خلال الأرض وشروط العقد الاجتماعي بمقتضى قدرة العقل على تحديد آليات السلام داخل المجتمع، وأنظمة الحق والواجب داخل الدولة، وبين الدول.
إن من جملة ما يهدف اليه “الاتحاد الفلسفي العربي” هو الخوض في مشكلات الانسان الكبرى على هذه الأرض، سائلا الفلاسفة والمفكرين العرب عمّا توصلوا اليه في هذه المهمة الشاقة، والتي بدونها لا يكون للفلسفة أهمية ولا دور في ثقافة البشر. ومن جملة ما يهدف اليه “الاتحاد” أيضا هو إشراك المؤسسات الفكرية والثقافية والأكاديمية في هذه المهام، لأن الوضع الانساني، وشروطه، وغاياته، كلها متعلقة المصير والأمل بمقدار ما يسعى أصحاب الفكر و”عمّال العقل” الى الانهمام بالذات سعيا الى خلاص لا يصدق الوعد به ما لم يكن الانسان نفسه مرجع السؤال عنه، أكان هذا الوعد نازلا من السماء أم طالعا من الأرض. وفي هذا السياق تندرج مشاركة الجامعة اللبنانية في هذا المؤتمر من خلال قسم الفلسفة في كلّية الآداب – الفرع الثالث.
أما بالنسبة الى “المركز الدولي لعلوم الانسان – جبيل (لبنان)”، فإن مشاركته في هذا المؤتمر ومساعدته على تحقيقه إنما تندرجان في السياق نفسه، كما تندرجان أيضا، ومن جهة أخرى، في سياق تجاوب “المركز” مع نتائج الطاولة المستديرة التي عقدتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في باريس بتاريخ 21 حزيران (يونيو) 2011 تحت عنوان “الديمقراطية والتجديد في العالم العربي”، وقد أهابت بالجامعات وبالمؤسسات الثقافية والعلمية في العالم العربي أن تشارك في القيام بالأبحاث وعقد المؤتمرات الفكرية حول هذا الموضوع بهدف بلورة الأفكار والطروحات المؤدية الى نشر الثقافة الديمقراطية وترسيخها في المجتمعات العربية للتوصل الى تعزيز فرصها بالسلام والحاكمية الصالحة.
عسى أن يستمرّ ويتعمّق التعاون والتنسيق بين القوى الثقافية في لبنان والعالم العربي سعيا مشتركا الى تعزيز الفكر الفلسفي وترسيخ الحسّ النقدي والإبداعي في الثقافة العربية.
الدكتور أدونيس العكره
رئيس الاتحاد الفلسفي العربي
مدير المركز الدولي لعلوم الانسان – بيبلوس (لبنان)
الفلسفة والمدينة
محتويات الكتاب
تقديم
الجلسة الافتتاحية
– كلمة التمهيد للمؤتمر : د. مصطفى الحلوه
– كلمة رئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب – الجامة اللبنانية: د. أحمد الأمين
– كلمة مدير كلية الآداب والعلوم الانسانية – الجامعة اللبنانية: د. جان جبور
– كلمة عميدة كلية الآداب والعلوم الانسانية – الجامعة اللبنانية: د. وفاء برّي
– كلمة رئيس الاتحاد الفلسفي العربي ومدير المركز الدولي لعلوم الانسان – جبيل (لبنان): د. أدونيس العكره
– كلمة رئيس اتحاد بلديات الفيحاء : د. نادر الغزال
– كلمة مؤسسة الصفدي: د. مصطفى الحلوه
– كلمة رئيس الجامعة اللبنانية: الدكتور عدنان السيد حسين
الجلسة الأولى: الفلسفة والمدينة : في المفهوم
فلاسفتنا والمدينة/ المدينة اليونانية (د. علي أومليل، سفير المملكة المغربية في لبنان)
الجلسة الثانية: الفلسفة والمدينة: في المفهوم المعاصر
من فلسفة المدينة الى عالمية الفلسفة ( أ. مطاع الصفدي، سوريا)
عودة الحوار السقراطي في القرن الحادي والعشرين: هل باتت ممكنة؟ (د. مجدي عبد الحافظ، مصر)
الفلسفة والصداقة أو أزمة اليونيفرسال (د. موسى وهبه، لبنان)
الجلسة الثالثة: الفلسفة والمدينة الحديثة والمعاصرة
الفضاء العمومي: “أغورا” المدينة الحديثة (د. عفيف عثمان، لبنان)
المدينة العربية – الاسلامية في منظور الفلسفة الاجتماعية (د. الزواوي بغوره، الجزائر)
الفلسفة بين البرج والمقهى (د. علي حميّه، لبنان)
الجلسة الرابعة: الفلسفة والمواطنة (1)
مستقبل المواطنة (د. أنور مغيث، مصر)
في التعصب والمواطنية (د. عاهدة طالب الأمين، لبنان)
فلسفة الاتهمام بالمواطنية في الفكر العربي المعاصر: أدونيس العكره أنموذجا (د. حسن مجيد العبيدي، العراق)
الدولة – المدينة في العهد السقراطي (د. ريمون غوش، لبنان)
الجلسة الخامسة: الفلسفة والنهضة
العقل والمدينة عند الجابري وأركون والعروي ونصّار (د. محمد المصباحي، المغرب)
النقد الفلسفي المعاصر والحراك العربي (د. أحمد الأمين، لبنان)
شقاء التأصيل العقلاني للدولة المدنية العربية (د. عبد الكريم البرغوثي، فلسطين)
نقد العقل الديني عند محمد أركون (د. محمد خالد الشيّاب، الاردن)
الجلسة السادسة: الفلسفة والمواطنة (2)
المواطنة وتحولات الفلسفي (د. فوزي العلوي، تونس)
مصير المواطنة في زمن العولمة (د. جاويدة جاري، الجزائر)
الجلسة الختامية: مقترحات وتوصيات
البيان الختامي للمؤتمر